top of page

انكسار/ قصة قصيرة/ فريزة محمد سلمان / سوريا .........

  • صورة الكاتب: وهاب السيد
    وهاب السيد
  • 4 نوفمبر 2021
  • 3 دقيقة قراءة


دلفت إلى غرفة الضيوف،ومعالم الضعف والأسى،تطوّق وجهها المتعب، تحاشت نظراتي،لكنها سرعان ماانهارت باكية، وجلست تفيض أسىً كنهر ضاق مجراه.قالت: " قصدت حضنها، أروم عطفاً، أنا التي حُرمتْ طفولتها، وحُرمتْ حنانها، بعد أن تم طلاقها من أبي،لأصحو ذات صباح فأجد نفسي وأنا ابنة الثانية عشر ربيعاً، أماً لثلاثة بنات صغيرات، وقبل أن أستوعب ماحصل، كان أبي قد تزوج امرأة ثانية، وكذلك أمي وكوّن كل منهما عائلة أخرى، وتُركنا أنا وأخواتي للأقدار تعبث بنا." -كنتُ أحاول تذكّر ملامحها الطفولية،عندما رأيتها أول مرةٍ مع أمها،فتاةٌ بشعر أسود قصير ،مجعد يشبه شعر الإفريقيات،لكنه منسق،ويضفي جمالاً على بشرتها البيضاء، تلتصق بأمها كمن تخاف أن تفقدها، وأمها التي أعطتها الكثير من جمالها، مشغولة بحديث نسائي، يحوز على أسماعهن_ أعود لها أسمعها تكمل ندبها: الله وحده يعرف كيف مرت الأيام علينا، كيف كنا نأكل ونشرب، كيف كنا ننام، كيف كبرنا، علمتهن وتعلمت معهن ومنهن، كانت سفينتنا عرضة لكل العواصف المجتمعية، التي كانت تلوك سمعتنا وتنعتنا بصفات كانت تطلق علينا، وهمس النساء كان يحرقني كلما مررت في الشارع، لكني تجاهلت، وتناسيت،وصبرت حتى وصلت بهن بر الأمان مثل أي أم مثالية، تخرجن،تزوجن،وأنجبن". كنت أعرف الكثير من المآسي التي تعرضن لها في مسيرة حياتهن، حتى فرجت عليها بوظيفة، ترفع بعض الفاقة عنهن وذل السؤال، ومرّ الحاجة، رغم أنها جهد إضافي مرهق يضاف إلى يومياتها. موجة الغضب مازالت تزلزل كيانها،فتركتها تنساب من دون أن أقاطعها، فقط كنت أضغط على يديها مواسية وهي تكمل " أنا التي ضحّت بعمرها، بصحتها بقيتُ أكابد المرض الذي فجره القهر المتراكم سنين طويلة، ومرت السنون من دون أن أنتبه، لأكمل عمري بسرطان متوحش جاءني عندما أحسست أنه يجب أن ألتفت لأكمل حياتي التي تسربت من بين أصابعي . _ نعم تسرب العمر من بين الأصابع، هاهي أصبحت في الأربعين بون شاسع بين الصغيرة تلك وهذه التي أمامي المتهالكة في اليأس والمرض، أعرف أنها طلبت للزواج أكثر من مرة، لكنها فضلت أن تقوم بواجبها الأمومي، حين عجزت أمها عن القيام به، حقيقة مرة، كم عذبتها_تتابع: "ذهبت لزيارتها أريد أن أشكو لها آلامي، أردت أن أبكي في حضنها الذي حرمت منه. تجاهلت وجعي وجلست تشتكي وتبكي أولادها، من زوجها الثاني، وكم تشتاقهم، وهم في جامعاتهم التي لاتبعد عنها سوى ساعات، وتفننت في سرد مايحبون وما يكرهون، كابدت وحشاً كاسراً بداخلي، وحشاً حاقداً ناقماً، حاولت منعه،وأنا أستمع لها وكأنني لست ابنتها التي تَركت، وكأنني وأخواتي أولاد امرأة أخرى، حتى أنها لم تكلف نفسها أن تسألني عنهن، وأين هن الآن، وماذا يفعلن في الدنيا. لم أرَ نفسي إلا وأنا أصب جام غضبي، وأحملها مسؤولية ما أنا فيه من مرض، وأنعتها بأنها أمٌّ مهملة ، لامسؤولة، لاتستحق لقب أم، هي التي تركت أربعةبنات تلعب بهن الدنيا وتزوجت. لو بقيتْ وربتنا كأي أم أخرى، لكنت درست وتخرجت وتزوجت كأي فتاة من عائلة محترمة، لكانت أخواتي ارتدين الابيض يوم فرحهن، وأمهن تزغرد لهن، لاأن يتزوجن على السكت كالأرامل، لأن زوجة أبيهن لاتستقبلهن مع أزواجهن في بيتها.أين هي من ذاكرتهن التي تفتقد لضمة أمٍّ عند ألمٍ ألمَّ بهن أو زعل،أو حتى فرح؟". وكأنها لم تنجبهن؟ وأنا المغفلة التي أضاعت عمرها ليعيشا حياتهما بسعادة. ألم تفكر بي للحظة؟ كيف أخذت مكانها في قلبهن، كيف مارست أمومتي وأنا الطفلة؟ التفت إليَّ بانفعال وقالت: لاأريد منها شيء هي لحظة ضعف مني، أنْ ذهبت لأفرد همي المكبوت على سرير حضنها، أملاً في أن تعوضني حنانها المفقود، للحظات أعود إلى أحضانها طفلة؟ ترْبتُ على رأسي، تهدهدني، تصوري ؟! حتى هذا الوقت القليل والثمين بالنسبة لي، كان صعباً عليها أن تهديني إياه،لم تقدر على إعطائي حقنة حب لاأكثر.فاقدة الإحساس بي وبهن،هذا مالمسته على مدى أعوام وكنت أكذب نفسي وأعود إلى حبل السرة الذي يربطني بها. أسفتُ إني قاطعتها،وهي تشتكي بُعدَ أبنائها، فحقاً هم أبناؤها، لأنها شاركتهم كل اللحظات الحلوة والمرة من نعومة أظفارهم حتى شبابهم. أما نحن فلنا الله، والله لايكلف نفساً إلا وسعها". تنهدت، مسحت دمعها، وبقنوط قالت:ليتني لم أذهب إليها لكنت في حال أفضل، ولكن قلبي هذا الذي لايرضى أن يقاطعها، ويخاف رب العالمين الذي أوصى بالأم خيرا، ماذا أفعل به؟ قولي لي، يظهر أني ولدت والأسى رفيقي." ربّتُ على كتفها مواسية ومشجعةلها بأنها أفضل أم، وقد قطفت ثمار تربيتها علماً وأدباً وحنّية، وهي التي لم تبخل عليهن بالعطاء يوماً. شربنا القهوة معاً،حاولتُ أن أمحي عن محياها تعابير الألم، أن نتصنّع الفرح، ببعض الذكريات الجميلة على قلّتها، وفرحتُ بأني استطعت أن أرسم ابتسامة على وجهها المتعب قبل أن تنهي زيارتها القصيرة. مرت أسابيع قبل أن أراها ذاك المساء، في غرفة العناية الفائقة،ووضعها على أسوئه،وهذه المرة تغلغل المرض في جسدها وأنهكه. نظرت إليَّ باسمة،ثم حلقت بعينيها من النافذة المطلة على المشروع السكني الذي كانت تنتظر إنهائه وقالت: انظري إنه قيد الإنهاء، سأنتقل إليه، وأدع خلفي كل الذكريات المؤلمة، سأبدأ من جديد، لم تكمل جملتها حين باغتتْها نوبة ألم حادة، غيبتْها عن الوعي وأدخلتها نفق الموت المظلم، من دون عودة.

فريزة محمد سلمان/ سورية

 
 
 

تعليقات


Drop Me a Line, Let Me Know What You Think

Thanks for submitting!

© 2023 by Train of Thoughts. Proudly created with Wix.com

bottom of page